الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
الوافر ستعلم أينا للموت أدنى *** إذا دانيت لي الأسل الحرارا على أن المفضول محذوف، والتقدير أدنى من صاحبه. ويجوز أن يكون أفعل، بمعنى اسم الفاعل. أي: قريب. ويجوز أن يكون المحذوف مضافاً إليه، والتقدير، أقربنا، وأدنانا، وأقرب رجلين منا. والبيت من قصيدة لعنترة العبسي، خاطب بها عمارة بن زياد العبسي، وتقدم شرح أبيات منها قبل البيت في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من باب المثنى. وما بعده من الأبيات لا تعلق لها به فلذا تركناها. وأدنى ودانيت فاعلت، كلاهما من الدنو، وهو القرب. قال ابن الشجري في أماليه: أراد إلى الموت أدنى. وإذا دانيت إلي الأسل. فوضع اللام في موضع إلى، لأن الدنو وما تصرف منه أصله التعدي بإلى. ومثله في إقامة اللام مقام إلى قول الله سبحانه: بأن ربك أوحى لها ، أي: أوحى إليها. والأسل بفتحتين: أطراف الرماح، وقيل: هي الأسنة، الواحد أسلة بزيادة الهاء. والحرار بكسر المهملة: جمع حرى، كعطاش جمع عطشى وزناً ومعنى. يقول لعمارة العبسي: ستعلم إذا تقابلنا، ودانيت الرماح بيننا، أينا أقرب إلى الموت. أي: إنك زعمت، أنك تقتلني، إذا لقيتني، وأنت أقرب إلى الموت عند ذلك مني. وأنشد بعده: السريع ولست بالأكثر منهم حص *** وإنما العزة للكاثر على أن من فيه ليست تفضيلية، بل للتبعيض، أي: ليست من بينهم بالأكثر حصاً، إلى آخر ما ذكره. والبيت من قصيدةٍ للأعشى ميمون، فضل فيها عامر بن الطفيل عدو الله على علقمة بن علاثة الصحابي قبل إسلامه. وتقدم شرح أوائل هذه القصيدة وسبب تفضيله على علقمة، في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين. وهذه أبيات منها: إن ترجع الحق إلى أهله *** فلست بالمسدي ولا النائر ولست في السلم بذي نائلٍ *** ولست في الهيجاء بالجاسر ولست بالأكثر منهم حص *** وإنما العزة للكاثر ولست في الأثرين من مالكٍ *** ولا أبي بكر أولي الناصر هم هامة الحي إذا ما دعو *** ومالك في السودد القاهر سدت بني الأحوص لم تعدهم *** وعامرٌ ساد بني عامر ساد وألفى قومه سادةً *** وكابراً سادوك عن كابر فاصبر على حظك مما ترى *** فإنما الفلج مع الصابر المسدي، من السدى بالفتح والقصر، وهو ما مد من الثوب. يقال: أسدى الثوب، وسداه، وتسداه. والنائر: اسم فاعل من نرت الثوب نيراً بالفتح، ونيرته وأنرته: جعلت له نيراً بالكسر، وهو علمٌ للثوب، وهدبه ولحمته. وهذا هو المراد هنا. وهذا مثلٌ يضرب في التبري من الشيء، كقولهم: لا في العير ولا في النفير. وهذا خطابٌ مع علقمة بن علاثة. والسلم، بالكسر: خلاف الحرب. والنائل بمعنى النوال، وهو العطاء. والهيجاء: الحرب. والجاسر، بالجيم، من الجسارة، وهي الجراءة والشجاعة. والحصا: العدد، والمراد به هنا عدد الأعوان والأنصار، وإنما أطلق الحصا على العدد لأن العرب أميون لا يعرفون الحساب بالقلم، وإنما كانوا يعدون بالحصا، وبه يحسبون المعدود. واشتقوا منه فعلاً، فقالوا: أحصيت. والعزة: القوة والغلبة. قال الدماميني: بهذا المعنى فسرها الجوهري في البيت، ولا مانع من جعلها بمعنى خلاف الذلة. أقول: الجوهري لم يذكر البيت هنا، والمعنى الذي ذكره لازمٌ للقوة والغلبة. والكاثر بمعنى الكثير، كذا في الصحاح. ويجوز أن يكون اسم فاعل من كثرتهم، إذا غلبتهم في الكثرة. قال صاحب القاموس: وكاثروهم: غالبوهم في الكثرة فغلبوهم. وعليه اقتصر بعض شراح شواهد المفصل، قال: الكاثر: الغالب، من كاثرته فكثرته. والأثرين جمع أثرى جمع تصحيح، بمعنى ذي ثروة وذي ثراءٍ، أي: ذي عدد وكثرة مال. قال الأصمعي: ثرا القوم يثرون، إذا كثروا ونموا. ومالك: هو جد عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة. وأبو بكر: عم جده، واسمه عبيد بالتصغير بن كلاب بن ربيعة المذكور. فأبو بكر أخو جعفر بن كلاب. والأحوص هو جد والد علقمة ابن علاثة، لأن علقمة هو علقمة بن عوف ابن الأحوص بن جعفر المذكور. فالأحوص ومالكٌ أخوان، والطفيل وعوف ابنا عم. والفلج، بضم الفاء: اسمٌ من فلج الرجل على خصمه يفلج فلجاً، من باب نصر، وهو الظفر والفوز. وهذا من قبيل التهكم. وقوله: ولست بالأكثر منهم حصاً ظاهره الجمع بين أل وبين من في أفعل التفضيل. وجوزه أبو عمر الجرمي في الشعر. رأيت في نوادر أبي زيد عند الكلام على هذا البيت، قال أبو عمر: هذا يجوز في الشعر، يقال: أنت أكثر منه مالاً وأنت الأفضل، إذا لم تأت بمن، فإذا اضطر الشاعر، قال: أنت الأفضل منهم. ولا يجوز إلا في اضطرا. ولو قال: أنت الأكبر من هؤلاء وهو منهم، لكان معناه أنت أكبر منهم. انتهى. ونسب ابن جني جواز الجمع بينهما إلى الجاحظ في موضعين من الخصائص قال في أوائله، في باب الرد على من اعتقد فساد علل النحويين: يحكى عن الجاحظ أنه قال: قال النحويون إن أفعل الذي مؤنثه فعلى لا تجتمع فيه الألف واللام ومن، وإنما هو بمن، وبالألف واللام. ثم قال: وقد قال الأعشى: ولست بالأكثر منهم حص ***...........البيت رحم الله أبا عثمان، أما إنه لو علم أن من في هذا البيت ليست التي تصحب أفعل للمبالغة، لضرب عن هذا القول إلى غيره، مما يعلو فيه قوله، ويعنو لسداده وصحته خصمه. وكذلك نسب ابن هشام في المغني هذا القول إلى الجاحظ ووهمه. ومنع النحاة الجمع بينهما. وبين ابن جني وجه المنع في أواخر الخصائص في باب الامتناع من نقض الفرض، ومثل له أمثلة ثم قال: ومن ذلك امتناعهم، أي: امتناع العرب، من إلحاق من بأفعل إذا عرفته باللام، نحو الأحسن منه. وذلك أن من تكسب ما يتصل به من أفعل هذا تخصيصاً ما. ألا تراك لو قلت دخلت البصرة فرأيت أفضل من ابن سيرين، لم يسبق الوهم إلا إلى الحسن. وإذا قلت الأحسن والأفضل ونحو ذلك فقد استوعبت اللام من التعريف أكثر مما تفيده من حصتها من التخصيص. وكرهوا أن يتراجعوا بعدما حكموا به من قوة التعريف إلى الاعتراف بضعفه إذا هم أتبعوه من الدالة على حاجته إليها، وإلى قدر ما تفيده من التخصيص المفاد منه. فأما ما ظن أبو عثمان الجاحظ من أنه يدخل على أصحابنا في هذا من قول الشاعر: ولست بالأكثر منهم حص ***.........البيت فساقط. وذلك أن من هذه ليست هي التي تصحب أفعل هذا لتخصيصه. انتهى. ووجه الشارح المحقق، تبعاً لغيره، ما في هذا البيت من ظاهر الإشكال بثلاثة أجوبة: أحدها: أن من فيه ليست تفضيلية، بل للتبعيض، أي: لست من بينهم بالأكثر حصاً. يحتمل من هذا التقدير أن يكون مراده أن الظرف حالٌ من التاء في لست، كما قال ابن جني في الموضع الثاني من الخصائص، وعبارته: ومن إنما هي حالٌ من تاء لست، كقولك: لست فيهم بالكثير مالاً، أي: لست من بينهم، وفي جملتهم بهذه الصفة، كقولك: أنت والله من بين الناس حرٌّ، وزيد من جملة رهطه كريم. هذا كلامه. ويحتمل أن يكون متعلقاً بليس كما قال بعضهم، ونقله ابن هشام في المغني، ويرد عليه شيئان: أحدهما: أن ليس لا تدل على الحدث، فلا تعمل في الظرف. وثانيهما: لزوم الفصل بين أفعل وتمييزه بالأجنبي. وأجاب ابن هشام في المغني عن الأول بأن الظرف يجوز تعلقه بما فيه رائحة الفعل، وفي ليس رائحة النفي. وعن الثاني بأن الفصل قد جاء للضرورة في قوله: المتقارب ثلاثون للهجر حولاً كميلاً وأفعل أقوى في العمل من ثلاثون. انتهى. وزاد ابن يعيش في شرح المفصل، قال: ويجوز أن يكون متعلقاً بالأكثر على حد ما يتعلق به الظرف، لا على حد: هو أفضل من زيد، كأنه قال: ولست بالأكثر فيهم، لأن أفعل بمعنى الفعل، أظهر منه في ليس، يدل على ذلك نصب الظرف في قوله: الطويل فإنا رأينا العرض أحوج ساعةً *** إلى الصون من ريطٍ يمانٍ مسهم ألا ترى أن الظرف هنا لا يتعلق إلا بأحوج، وتعليق الظرف بليس ليس بالسهل، لجريه مجرى الحروف. انتهى. ولو جعل الظرف حالاً من الضمير في أكثر لاستغنى عن هذا. والأكثرون على أن من هنا للبيان. قال أبو حيان: من في البيت للبيان. لا للتفضيل، والمفضل عليه معلومٌ من العهد. وبيان ذلك: أنك تقول لمخاطبك: زيد أفضل من عمرو، ثم تقول له بعد ذلك: زيد الأفضل من تميم، فمن هنا للبيان، أي: إن زيداً الذي هو أفضل من عمرو هو من تميم. ولك أن تجمع بينهما، فتقول: زيد أفضل من عمرو من تميم. انتهى. وعلى هذا فالظرف حالٌ لا غير. وقال بعضهم: من هنا بمعنى في. ويتعلق بالأكثر. نقله شارح أبيات الموشح. وهذا كله جوابٌ واحد لإخراج من من التفضيل، لا أجوبةٌ متعددة كما زعم العيني. غاية ما في الباب الذاهبون إلى إخراجها من التفضيل اختلفوا في معناها. الجواب الثاني: أن اللام زائدة، ومن تفضيلية. وهذا الجواب لأبي زيد في نوادره. الثالث: أن من تفضيلية، لكنها متعلقة بأفعل آخر عارياً من اللام، أي: بالأكثر أكثر منهم. فأكثر المنكر المحذوف بدلٌ من الأكثر المعرف المذكور. وإنما ضعفه بقوله: على ما قيل، لما ذكره في باب البدل من أن النكرة إذا كانت بدل كل من معرفة يجب وصفها، وليس هنا وصف. هذا والرواية الصحيحة في هذا البيت، كما رواه أبو زيد في نوادره، وهي ثابتة في ديوانه، ويدل عليها سياق الأبيات، إنما هي: ولست بالأكثر منه، أي: من عامر. وعليها فيسقط الجواب الأول، ويجاب بأحد الجوابين الأخيرين. ولما وصلت إلى هنا رأيت شرح المنافرة التي بين علقمة وبين عامر بأبسط مما مر، في أول شرح المقامات الحريرية للشريشي، فلا بأس بإيراد، قال: نافر: حاكم في النسب. وكانوا في الجاهلية، إذا تنازع الرجلان في الشرف تنافرا إلى حكمائهم، فيفضلون الأشرف. وسميت منافرة لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة: أنا أعز نفراً. وأشهر منافرة في الجاهلية منافرة عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب مع علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر، حين قال له علقمة: الرياسة لجدي الأحوص، وإنما صارت إلى عمك أبي براء من أجله، وقد استسن عمك وقعد عنها فأنا أولى بها منك، وإن شئت نافرتك. فقال له عامر: قد شئت والله، لأنا أشرف منك حسباً، وأثبت نسباً، وأطول قصباً. فقال علقمة: أنافرك وإني لبرٌّ، وإنك لفاجر، وإني لولود، وإنك لعاقر، وإني لوافٍ، وإنك لغادر. فقال عامر: أنافرك إني أسمى منك سمة وأطول قمة، وأحسن لمة، وأجعد جمة، وأبعد همة. فقال علقمة: أنا جميل، وأنت قبيح، ولكن أنافرك، إني أولى بالخيرات منك. فخرجت أم عامر، فقالت: نافره أيكما أولى بالخيرات. ففعلوا على أن جعلوا مائةً من الإبل يعطيها الحكم الذي ينفر عليه صاحبه. فخرج علقمة ببني خالد بن جعفر، وبني الأحوص، ومعهما القباب والجزر والقدور، ينحرون في كل منزلٍ ويطعمون. وخرج عامرٌ ببني مالك، وقال: إنها المقارعة عن أحسابكم: فاشخصوا بمثل ما شخصوا به. وقال لعمه أبي براء: فقال: سبني. فقال: كيف أسبك وأنت عمي؟ فقال: وأنا لا أسب الأحوص، وهو عمي! ولم ينهض معه. فجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية، ثم إلى أبي جهل بن هشام، فلم يقولا بينهما شيئاً. ثم رجعا إلى هرم بن قطبة بن سيار الفزاري، فقال: نعم لأحكمن بينكما، فأعطياني موثقاً أطمئن به أن ترضيا بحكمي، وتسلما لما قضيت بينكما. ففعلا، فأقاما عنده أياماً. ثم أرسل إلى عامر، فأتاه سراً، فقال: قد كنت أحسب أن لك رأياً وأن فيك خيراً، وما حبستك هذه المدة إلا لتنصرف عن صاحبك. أتنافر رجلاً لا تفخر أنت ولا قومك إلا بآبائه، فما الذي أنت به خيرٌ منه؟ فقال عامر: نشدتك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة، فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبداً. هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي، فإن كنت لا بد فاعلاً فسو بيني وبينه. فقال: انصرف فسوف أرى من آرائي. فانصرف عامر وهو لا يشك أنه ينفره عليه. ثم أرسل إلى علقمة سراً فقال له ما قال لعامر: وقال: أتفاخر رجلاً هو ابن عمك في النسب؟ وأبوه أبوك، وهو مع ذلك أعظم منك غناءً، وأحمد لقاءٍ، وأسمح سماحاً، فما الذي أنت به خيرٌ منه.؟ فرد عليه علقمة، ما رد به عامر، وانصرف، وهو لا يشك أن ينف عامراً عليه. فأرسل هرمٌ إلى بنيه وبني أخيه، وقال لهم: إني قائلٌ فيهم غداً مقالةً، فإذا فرغت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة، وليطرد بعضكم مثلها، فلينحرها عن عامر، وفرقوا بين الناس لا يكونوا بينهم جماعة. ثم أصبح هرمٌ فجلس مجلسه، وأقبل عامر وعلقمة حتى جلسا، فقال هرم: إنكما يا ابني جعفر قد تحاكمتما عندي، وأنتما كركبتي البعير الآدم الفحل تقعان الأرض، وليس فيكما واحدٌ إلا وفيه ما ليس في صاحبه، وكلاكما سيد كريم. ولم يفضل واحداً منهما على صاحبه، لكيلا يجلب بذلك شراً بين الحيين. ونحر الجزر وفرق الناس. وعاش هرمٌ حتى أدرك خلافة عمر، فقال: يا هرم، أي الرجلين كنت مفضلاً لو فعلت؟ قال: لو قلت ذلك اليوم عادت جذعةً، ولبلغت شعفات هجر! فقال عمر: نعم مستودع السر أنت يا هرم، مثلك فليستودع العشيرة أسرارهم! والحكاية طويلة قد اختصرناها. وقال فيه الأعشى: حكمتموه فقضى بينكم *** أبلج مثل القمر الباهر لا يأخذ الرشوة في حكمه *** ولا يبالي غبن الخاسر انتهى كلام الشريشي. وقد شرحها بأكثر من هذا مرتين وثلاثاً الأصبهاني في الأغاني، ومن أراد بسط الكلام فلينظره في المجلد الخامس عشر من تجزئة عشرين. وأنشد بعده: الوافر ورثت مهلهلاً والخير منه *** زهيراً نعم ذخر الذاخرينا على أن اللام في الخير زائدة، ومن في منه تفضيلية. ويجوز أن يقدر أفعل آخر عارياً من اللام يتعلق به منه، والتقدير: والخير خيراً منه. وقال الإمام البيضاوي في لب اللباب: ولا يستعمل، أي: اسم التفضيل، إلا بمن، واللام، والإضافة. والخير منه قليل. وهذه إشارةٌ إلى البيت. وأجاب شارحه السيد عبد الله بما أجاب به الشارح المحقق، من التخريجين. ولم يقل إن من ليس فيه تفضيلية، كما قال في البيت الذي قبله، لأنه لم يتأت ذلك هنا. والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، وتقدم سبب نظمها مع شرح أبيات منها في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة، وبعده: وعتاباً وكلثوماً جميع *** بهم نلنا تراث الأكرمينا وقوله: ورثت مهلهلاً إلخ، هو بالتكلم. ومهلهل: اسم جد الشاعر من قبل أمه. وهو أخو كليب بن وائل، وصاحب حرب البسوس أربعين سنة. وتقدمت ترجمته مع سبب تسميته بمهلهل في الشاهد العاشر بعد المائة. وقوله: والخير منه، أي: ورثت خيراً من مهلهل. وزهيراً عطف بيان للخير، وإنما كان زهير خيراً من مهلهل لأنه جده من قبل أبيه، فإن صاحب المعلقة كما تقدمت ترجمته، هو عمرو بن كلثوم بن عتاب بن مالك بن ربيعة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل. والمخصوص بالمدح في نعم ذخر الذاخرينا زهير على حذف مضاف، يريد: ورثت مجد مهلهل ومجد زهير، فنعم ذخر الذاخرين زهير، أي: مجده وشرفه، للافتخار به. وقوله: وعتاباً وكلثوماً إلخ، عتاب: جد الشاعر. وكلثوم: أبوه. يقول: ورثنا مجد عتابٍ وكلثوم، وبهم بلغنا ميراث الأكارم، أي: حزنا مآثرهم ومفاخرهم، فشرفنا بها وكرمنا. وأنشد بعده: وهو من أبيات الإيضاح للفارسي: الطويل فإنا رأينا العرض أحوج ساعةً *** إلى الصون من ريط يمانٍ مسهم على أنه يجب أن يلي أفعل التفضيل إما من التفضيلية، كما في قولهم: زيد أفضل من عمرو، وإما معموله كما في البيت، فإن ساعةً ظرف لأحوج. ومثله قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وقال تعالى: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}. وقد يفصل بالنداء أيضاً. قال جرير: الكامل لم ألق أخبث يا فرزدق منكم *** ليلاً وأخبث بالنهار نهارا قال أبو البقاء في شرح الإيضاح: رأينا هنا، بمعنى علمنا. وأحوج اسم يراد به التفضيل، وهو مفعول ثان لرأينا، وساعة منصوب بأحوج وإلى الصون متعلق به أيضاً، وكذلك من ريط. وجاز أن يتعلق حرفا الجر بأفعل لأن معناهما مختلف، ومن هي التي يقتضيها أفعل. والأقوى أن يقدم من على إلى لأن تعلق من بأفعل يوجب معنًى في أفعل وهو التخصيص، فإذا فصلت بينهما ضعفت علقته به، ومع هذا فهو جائز ورد القرآن به. قال تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}. وقال تعالى: {ونحن أقرب إليه منكم}. وهو أكثر من أن أحصيه. وإنما ذكره أبو علي ليبين لك، أن عمل أحوج في ساعة، ليس على حد عمله في من التي للمفاضلة، كما أن قوله بالأكثر منهم لا يتعلق من بالأكثر على هذا الحد، بل على حد تعلق ساعةً بأحوج. وأما إلى، ومن ريط، فيتعلقان بأحوج لا محالة. فإن قيل: لم لا تعلق ساعة برأينا؟ قيل: يمتنع من وجهين: أحدهما: أن المعنى ليس على هذا، بل المعنى على شدة حاجة العرض إلى الصون في أي ساعةٍ كانت. والثاني: أنك لو نصبتها برأينا لفصلت بها بين أحوج، وما يتعلق به، وهو أجنبي، فلم يجز. انتهى كلام أبي البقاء. والبيت من قصيدة طويلة جداً لأوس بن حجر، وقبله: ومستعجبٍ مما يرى من أناتن *** ولو زبنته الحرب لم يترمرم فإنا وجدنا العرض... ***...........البيت أرى حرب أقوامٍ تدق وحربن *** تجل فنعروري بها كل معظم ترى الأرض منا بالفضاء مريضةً *** معضلةً منا بجمعٍ عرمرم وقوله: ومستعجبٍ مما، إلخ الواو واو رب، ومستعجب: اسم فاعل. قال صاحب العباب: واستعجبت منه: تعجبت منه. وأنشد هذا البيت. والأناة، بالفتح: اسم للتأني، يقال: تأنى في الأمر: تمكث ولم يعجل. وزبنته: دفعته، يقال زبنت الناقة حالبها زبناً، من باب ضرب: دفعته برجلها، فهي زبونٌ. وحربٌ زبونٌ أيضاً، لأنها تدفع الأبطال عن الإقدام خوف الموت. ومنه الزبانية، لأنهم يدفعون أهل النار إليها. قال صاحب الصحاح: وترمرم، إذا حرك فاه للكلام. وأنشد هذا البيت. وقوله: فإنا وجدنا العرض إلخ، العرض: بالكسر، قال الشريف في أماليه: هو موضع المدح والذم من الإنسان. فإذا قيل ذكر عرض فلانٍ، فمعناه ذكر ما يرتفع به، وما يسقط بذكره، ويمدح، ويذم به. وقد يدخل بذلك ذكر الرجل نفسه، وذكر آبائه وأسلافه، لأن كل ذلك مما يمدح به ويذم. والذي يدل على هذا أن أهل اللغة لا يفرقون في قولهم: شتم فلانٌ عرض فلان، بين أن يكون ذكره في نفسه بقبيح، وشتم سلفه وآباءه. ويدل عليه قول مسكينٍ الدارمي: الرمل رب مهزولٍ سمينٍ عرضه *** وسمين الجسم مهزول الحسب فلو كان العرض نفس الإنسان، لكان الكلام متناقضاً، لأن السمن والهزال، يرجعان إلى شيءٍ واحد. إلى آخر ما فصله. ورد على ابن قتيبة في زعمه، أن العرض هو النفس، ونقض ما استدل به. وقد أحكم الكلام على معنى العرض ابن السيد البطليوسي أيضاً في أوائل شرح أدب الكاتب لابن قتيبة. وكذلك حقق المراد من العرض ابن الأنباري في كتابه الزاهر، ولولا خوف الإطالة لأوردت كلامهما. ويؤيد كلام الشريف المرتضى قول ابن السكيت في شرح هذا البيت من شرح ديوان أوس يقول: العرض يحتاج سويعةً إلى أن يصان. فإن سفه الرجل عليه قطع عرضه ومزقه إن لم يحتمل فيصونه. انتهى. وقوله: أحوج قال ابن جني في إعراب الحماسة: هذا خلاف القياس، لأنه أفعل تفضيلٍ من المزيد، قالوا: ما أحوجه إلى كذا، وقياسه: ما أشد حاجته، وما أشد احتياجه. وأنشد هذا البيت. وفيه نظر، فإن الثلاثي المجرد منقول ثابت. قال صاحب الصحاح وغيره: وحاج يحوج حوجاً، أي: احتاج، قال الكميت: الطويل غنيت فلم أرددكم عند بغيةٍ *** وحجت فلم أكددكم بالأصابع وروى بدله: أفقر ساعةً وهذا عند الجوهري شاذ. قال: وقولهم: فلانٌ ما أفقره وما أغناه، شاذ لأنه يقال في فعلهما افتقر واستغنى، فلا يصح التعجب منه. انتهى. وفيه نظر أيضاً، فإن ثلاثيه مسموعٌ أيضاً. قال صاحب الصحاح: الفقير فعيل بمعنى فاعل، يقال: فقر يفقر، من باب تعب، إذا قل ماله. قال ابن السراج: ولم يقولوا فقر، أي: بالضم، استغنوا عنه بافتقر. انتهى. وتنوين ساعةً للتنكير والتقليل، كما فهم من كلام ابن السكيت. وقال ابن بري: قال أبو الفتح بن جني: قوله ساعة يريد ساعة الغضب، فاستغنى عن الإضافة لدلالة اللفظ عليه. انتهى. والمعنى أن العرض يصان عند ترك السفه في أقل من ساعة، إذا ملك نفسه، فكيف لا يصان إذا داوم عليه. والعرض أكثر احتياجاً إلى الصون من الثياب النفيسة، فإن عرض الرجل أحوج إلى الصيانة عن الدنس والرين من الثوب الموشى المزين. وعنى بالساعة ساعة الغضب والأنفة، فإنه كثيراً ما أهلك الحلم وأتلفه. وفي المثل السائر: الغضب غول الحلم. والريط واحده ريطة، قال صاحب المصباح: الريطة بالفتح: كل ملاءة ليست لفقين، أي: قطعتين، والجمع رياط وريطٌ أيضا. مثل تمرة وتمر. وقد يسمى كل ثوبٍ رقيق ريطة. انتهى. والمعنى الأخير هو المراد هنا. قال ابن السكيت: ومسهم: فيه وشيٌ مثل أفواق السهام. وقال الجوهري: المسهم. البرد المخطط. وقوله: أرى حرب أقوام إلخ، قال صاحب المصباح: الدقيق: خلاف الجليل. ودق يدق من باب ضرب دقةً: خلاف غلظ، فهو دقيقٌ. ودق الأمر دقةً أيضاً، إذا غمض وخفي معناه، فلا يكاد يفهمه إلا الأذكياء. وجل الشيء يجل بالكسر: عظم فهو جليل. قال ابن السكيت: يقول: نحن نسرع إلى هذه الحرب، كما يعجل الرجل إلى فرسه فيعروريه، أي: يركبه عرياناً. ويقال: قد اعرورى فرسه، إذا ركبه عرياً، بالضم. انتهى. وقوله: ترى الأرض منا إلخ، في الصحاح: وعضلت الشاة تعضيلاً إذا نشب الولد فلم يسهل مخرجه، وكذلك المرأة، وهي شاةٌ معضلة ومعضل أيضاً بلا هاء. وعضلت الأرض بأهلها: غصت بهم. وأنشد هذا البيت. والعرمرم: الجيش الكثير. قال ابن السكيت: هذا مثلٌ ضربه، شبه الأرض بالحبلى التي تتمخض وقد نشب ولدها في بطنها. فيقول: قد نشبنا بالأرض من كثرتنا. وأوس بن حجر شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع عشر بعد الثلثمائة. وحجر، بفتح الحاء والجيم. وأنشد بعده: الرجز واستنزل الزباء قسراً وهي من *** عقاب لوح الجو أعلى منتمى على أن تقدم من على أفعل التفضيل، إذا لم يكن مجرورها اسم استفهام خاص بالشعر. وهذا مذهب الجمهور، وهو قليل عند ابن مالك لا ضرورة. وأما تقدمها على المبتدأ، نحو: من زيد أنت أفضل، فضرورةٌ اتفاقاً. وقال ابن هشام اللخمي في شرح هذا البيت: من عقاب متعلق بأعلى وإنما قدمه ضرورة، لأن أفعل لا يقوى قوة الفعل، فيعمل عمله فيما قبله فلا يجوز. من زيد أنت أفضل، فتقدم الجار عليه، لضعفه، إلا أنه جاز هنا للضرورة. كما قال الفرزدق: الطويل وقالت لنا أهلاً وسهلاً وزودت *** جنى النحل وما زودت منه أطيب انتهى. ولا يخفى أن المثال مخالفٌ للبيتين، فإنه مما تقدمت من فيه على المبتدأ والخبر، والبيتان مما تقدمت من فيه على الخبر فقط. والبيت من مقصورة ابن دريد المشهورة. وقبله: وقد سما عمروٌ إلى أوتاره *** فاحتط منها كل عالي المستمى سما يسمو سمواً: ارتفع. والأوتار: جمع وتر بكسر الواو وفتحها وهو طلب الإنسان بجناية. واحتط: افتعل من الحط بالمهملتين: أنزل. وعال: مرتفع. ومستمى: مفتعل من سما يسمو. وعمروٌ هو عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عبد الحارث بن معاوية بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم، ملك الحيرة، ملك بعد خاله جذيمة مائة وثماني عشرة سنة. وهو أول من ملك من ملوك لخم. وكان مدة ملك لخمٍ بالحيرة خمسمائة سنة. وكان من حديث عدي أن جذيمة قال ذات يوم لندمائه: لقد ذكر لي غلامٌ من لخم في أخواله من بني إياد، له ظرفٌ وأدب، فلو بعثت إليه ووليته كأسي، والقيام على رأسي، لكان الرأي. فقالوا: الرأي ما رآه الملك فليبعث إليه. ففعل، فلما قدم عليه قال: من أنت؟ قال: أنا عدي بن نصر. فولاه مجلسه، فعشقته رقاش بنت مالك، أخت جذيمة، فقالت له: يا عدي إذا سقيت القوم، فامزج لهم، وعرق للملك، أي: امزج له قليلاً كالعرق، فإذا أخذت الخمر منه فاخطبني إليه فإنه يزوجك، فأشهد القوم إن فعل. ففعل الغلام وخطبها، فزوجه وأشهد عليه، وانصرف إليها فعرفها، فقالت: عرس بأهلك. فلما أصبح غدا متضمخاً بالخلوق، فقال له جذيمة: ما هذه الآثار يا عدي؟ قال: آثار العرس. قال: وأي عرس؟ قال: عرس رقاش. فنخر وأكب على الأرض، ورفع عدي جراميزه فأسرع جذيمة في طلبه، فلم يجده، وقيل: بل قتله وبعث إليها: الخفيف حدثيني وأنت لا تكذبيني *** أبحرٍّ زنيت أم بهجين أم بعبدٍ فأنت أهلٌ لعبدٍ *** أم بدونٍ فأنت أهلٌ لدون فأجابته رقاش: الخفيف أنت زوجتني وما كنت أدري *** وأتاني النساء للتزيين ذاك من شربك المدامة صرف *** وتماديك في الصبا والمجون فنقلها جذيمة إليه، وحصنها في قصره، فاشتملت على حمل وولدت غلاماً فسمته عمراً، حتى إذا ترعرع حلته وعطرته ثم أزارته خاله فأعجب به، وألقيت عليه محبةٌ منه. ثم إن جذيمة نزل منزلاً وأمر الناس أن يجتنبوا له الكمأة، فكان بعضهم إذا وجد شيئاً منها يعجبه آثر به نفسه على جذيمة، وكان عمرو بن عدي يأتيه بخير ما يجد، فعندها يقول عمرو: الرجز هذا جناي وخياره فيه *** إذ كل جانٍ يده إلى فيه ثم إن الجن استهوته فطلبه جذيمة في آفاق الأرض فلم يسمع له خبراً، إذ أقبل رجلان من بني القين، يقال لأحدهما مالك، وللآخر عقيل ابنا فالج، ويروى فارج، من الشام، وهما يريدان الملك بهدية، فنزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها: أم عمرو، فنصبت لهما قدراً وهيأت لهما طعاماً، فبينما هما يأكلان إذ أقبل رجلٌ أشعث الرأس قد طالت أظفاره، وساءت حاله، ومد يده فناولته القينة طعاماً فأكله، ثم مد يده، فقالت القينة: أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً، فأرسلتها مثلاً. ثم ناولت صاحبيها من شرابها، وأوكت سقاءها. فقال عمرو بن عدي: الوافر صددت الكأس عنا أم عمروٍ *** وكان الكأس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمروٍ *** بصاحبك الذي لا تصبحينا ويروى هذا الشعر لعمرو بن كلثوم التغلبي. ويقال إن عمرو بن كلثوم أدخله في معلقته. والله أعلم. وهما من شواهد سيبويه. ومجراها: بدل من الكأس، واليمين: خبر كان. وإن شئت جعلت مجراها مبتدأ، واليمين: ظرفاً، كأنه قال: ناحية اليمين، وهو خبر عن مجراها، والجملة خبر كان. فقال له الرجلان: من أنت؟ قال: أنا عمرو بن عدي. فقاما إليه ويسلما عليه، وقلما أظفاره وقصرا من شعره، وألبساه من طرائف ثيابهما، وقالا: ما كنا نهدي إلى الملك هديةً، هي أنف عنده، ولا هو عليها أحسن عطاءً من ابن أخته، قد رده الله عليه. فلما وقفا بباب الملك بشراه فسر به، وصرفه إلى أمه، وقال: لكما حكمكما. فقالا: حكمنا منادمتك ما بقيت وبقينا. قال: ذلك لكما. فهما ندمانا جذيمة المعروفان. وإياهما عني متمم بن نويرة بقوله في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة: الطويل وكنا كندماني جذيمة حقبةً *** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالك *** لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا وقال أبو خراش الهذلي يرثي أخاه عروة: الطويل ألم تعلمي أن قد تفرق قبلن *** نديما صفاءٍ مالكٌ وعقيل وروى أن جذيمة كان لا ينادم أحداً كبراً وزهواً. وكان يقول: أنا أعظم من أن أنادم إلا الفرقدين. فكان يشرب كأساً، ويصب لكل واحدٍ منهما كأساً، فلما أتى مالك وعقيل نادماه أربعين سنة، ما أعادا عليه حديثاً. ثم إن أم عمرو جعلت في عنقه طوقاً من ذهب لنذرٍ كان عليها، ثم أمرته بزيارة خاله، فلما رأى لحيته والطوق في عنقه، قال: شب عمروٌ عن الطوق!. فذهبت مثلاً. وأقام عمرو مع خاله جذيمة قد حمل عنه عامة أمره، إلى أن قتل. وقوله: فاستنزل الزباء قسراً البيت، أي: أنزل الزباء. وفاعله ضمير عمروٍ المذكور في البيت قبله، والزباء مفعوله. والزباء ملكة اسمها نائلة، وقيل: فارعة، وقيل: ميسون. وكانت زرقاء. ومن النساء الموصوفات بالرزق زرقاء اليمامة. وكانت البسوس أيضاً زرقاء. والزباء تمد وتقصر. فمن مد جعل مذكرها أزب، ومن قصر جعل مذكرها زبان. وكان لها شعرٌ، وإذا مشت سحبته وراءها، وإذا نشرته جللها فسميت الزباء. والأزب: الكثير الشعر. واختلف في نسبها، فقيل كانت رومية وكانت تتكلم بالعربية، ومدائنها على شاطىء الفرات من الجانب الشرقي والغربي. وقيل: إنها بنت عمرو بن ظرب بن حسان، من أهل بيت عاملة من العماليق، ملكت الشام والجزيرة. وقيل إن الزباء بنت مليح بن البراء، كان أبوها ملكاً على الحضر، وهو الذي ذكره عدي بن زيد بقوله: الخفيف وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج *** لة تجبى إليه والخابور قتله جذيمة وطرد الزباء إلى الشام فلحقت بالروم. وكانت عربية اللسان ما رئي في نساء زمانها أجمل منها. وكانت كبيرة الهمة، وبلغت من همتها أن جمعت الرجال، وبذلت الأموال، وعادت إلى مملكة أبيها فأزالت جذيمة عنها، وبنت على الفرات مدينتين متقابلتين، وجعلت بينهما أنفاقاً تحت الأرض، وتحصنت، وهادنت جذيمة مدة، ثم خاطبها فاستدعته وقتلته، كما تقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الخمسمائة من باب العلم. وقوله: من عقاب لوح إلخ، العقاب، بالضم: طائر معروف. واللوح، بالضم: الهواء، والجو ما بين السماء والأرض. ونظم ابن دريد قول عمرو بن عدي لقصير: كيف أقدر على الزباء، وهي أمنع من عقاب لوح الجو كما يأتي. ومنتمًى: مرتفع، في القاموس: وانتمى البازي: ارتفع من موضعه إلى آخر. ويروى: أعلى منتهى، أي: أعلى ما ينتهى إليه. قيل: قد غلط فيه، لأن العرب لا تقف بالتنوين، ومنتمى: هنا منصوب على التمييز، والوقف فيه عند سيبويه على الألف المبدلة من التنوين. وقد حقق الشارح المحقق في باب الوقف من شرح الشافية أن هذا ليس مذهب سيبويه، وأن هذه اللام لام الكلمة لا الألف المبدلة من نون التنوين. وقسراً: قهراً، إما مفعول مطلق، وإما حال. أي: فاستنزل الزباء كارهةً. يريد أن عمراً أخذ ثأره منها فقتلها، وإنما قدر عليها بإعانة قصير بن سعد، من أصحاب جذيمة، فإنه قال لعمرو بن عدي بعد قتل جذيمة: ألا تطلب بثأر خالك؟ فقال: وكيف أقدر على الزباء، وهي أمنع من عقاب لوح الجو! فأرسلها مثلاً. فقال له قصير: اطلب الأمر وخلاك ذمٌّ! فذهبت مثلاً أيضاً. ثم إن قصيراً جدع أنفه وقطع أذنه بنفسه، وفيه قيل: لأمر ما جدع قصيرٌ أنفه. ثم لحق بالزباء زاعماً أن عمرو بن عدي صنع به ذلك، وأنه لجأ إليها هارباً منه، ولم يزل يتلطف بها بطريق التجارة وكسب الأموال، إلى أن وثقت به، وعلم خفايا قصرها وأنفاقه. فلما كان في السفرة الثالثة، اتخذ جوالقاتٍ كجوالق المال، وجعل ربطها من داخل الجوالق في أسفله، وأدخل فيها الرجال بالأسلحة، وأخذ عمرو بن عدي معه، وقد كان قصيرٌ وصف لعمرو شأن النفق، ووصف له الزباء، فلما دخلت الجمال المدينة جاء عمرو بن عدي على فرسه فدخل الحصن بعقب الإبل، وبركت الإبل، وحل الرجال الجوالقات ومثلوا بالمدينة، ووقف عمرو على باب النفق، فلما جاءت الزباء هاربة جللها بالسيف واستباح بلادها. وقد تقدم شرح هذه القصة بأبسط من هذا في شرح الشاهد المذكور. وترجمة ابن دريد تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائة. وأنشد بعده: الرجز قبحتم يا آل زيدٍ نفر *** ألأم قومٍ أصغراً وأكبرا على أن أفعل قد يأتي بمعنى اسم الفاعل، والصفة المشبهة قياساً عند المبرد، سماعاً عند غيره. وهو الأصح كما في البيت، فإنهما بمعنى صغير وكبير. وهذا البيت أورده المبرد في الكامل عند شرح قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لن *** بيتاً دعائمه أعز وأطول قال: وجائزٌ أن يكون التقدير: دعائمه عزيزة طويلة، كما قال الآخر: قبحتم يا آل زيدٍ نفرا........البيت قال: يريد صغاراً وكباراً. وفي التسهيل وشرحه لابن عقيل: واستعماله عارياً دون من مجرداً عن معنى التفضيل مؤولاً باسم الفاعل: هو أعلم بكم ، أي: عالمٌ وصفة مشبهة: وهو أهون عليه ، أي: هين مطرد عند المبرد. وعليه المتأخرون. وحكى ابن الأنباري الجواز عن أبي عبيدة، والمنع عن النحويين. والأصح قصره على السماع. قيل لقلة ما ورد من ذلك. وفيه نظر ظاهر، ولعل وجهه أن الوارد قابلٌ للتأويل، إلا أن في بعض التأويل تكلفاً، وموضع التكلف قليل، ومنه: بناتي هن أطهر لكم ، أي: طاهرات، لا يصلاها إلا الأشقى ، أي: الشقي. والوجه، أن ذلك مطرد، ولزوم الإفراد والتذكير فيما ورد كذلك أكثر من المطابقة. فالإفراد: خيرٌ مستقراً وأحسن مقيلاً ، ونحن أعلم بما يستمعون والمطابقة: الطويل إذا غاب عنكم أسود العين كنتم *** كراماً وأنتم ما أقام ألائم فألائم جمع ألأم بمعنى لئيم. وإذا صح جمع أفعل العاري المجرد عن معنى التفضيل، إذا جرى على جمعٍ، جاز تأنيثه إذا جرى على مؤنث. وعلى هذا يكون قول الحسن بن هانىء: البسيط كأن كبرى وصغرى من فقاقعه *** حصباء درٍّ على أرضٍ من الذهب صحيحاً، لأنه تأنيث أصغر وأكبر، بمعنى صغير وكبير، لا بمعنى التفضيل. انتهى. وقال الشاطبي عند قول ابن مالك: وأفعل التفضيل صله أبد *** تقدير ولفظاً بمن إن جردا قوله: أبدا فيه تنكيت، وتنبيه على أن المجرد لا يأتي بمعنى اسم الفاعل مجرداً من معنى من قياساً أصلاً، خلافاً للمبرد القائل بأنه جائز قياساً، فيجوز عنده أن تقول: زيد أفضل، غير مقصودٍ به التفضيل على شيءٍ، بل بمعنى فاضل. وزعم أن معنى قولهم في الأذان وغيره: الله أكبر: الله الكبير، لأن المفاضلة تقتضي المشاركة في المعنى الواقع فيه التفضيل، والمفاضلة في الكبرياء هنا تقتضي المشاركة إن قدر فيه، من كل شيء. ومشاركة المخلوق للخالق في ذلك وفي غيره من أوصاف الرب محالٌ، بل كل كبير بالإضافة إلى كبريائه لا نسبة له، بل هو كلا شيء. وكذلك قول في قوله: وهو أهون عليه تقديره معنًى: وهو هينٌ عليه، لأن جميع المقدورات متساويةٌ بالنسبة إلى قدرة الله، فلا يصح في مقدور مفاضلة الهون فيه على مقدورٍ آخر. ومنه قوله تعالى: {هو أعلم بكم} إذ لا مشاركة لأحدٍ بين علمه وعلم الله تعالى. ومن ذلك قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لن *** بيتاً.........البيت أي: عزيزة وطويلة. فهذه مواضع لا يصح فيها معنى المفاضلة، فثبت أنها صفات مجردة عن ذلك، مساويةٌ لسائر الصفات. ومثل ذلك كثير. فقاس المبرد على ذلك ما في معناه. فالناظم نكت عليه، وارتضى مذهب سيبويه، ومن وافقه، وأن أفعل التفضيل لا يتجرد من معنى من إذا كان مجرداً أصلاً. وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك فهو راجعٌ إلى تقدير معنى من، وإلى بابٍ آخر. فأما المفاضلة فيما يرجع إلى الله تعالى فهي بالنسبة إلى عادة المخلوقين في التخاطب، وعلى حسب توهمهم العادي. فقوله: الله أكبر، معنى ذلك أكبر من كل شيءٍ يتوهم له كبر، وعلى حسب ما اعتادوه في المفاضلة بين المخلوقين، وإن كان كبرياء الله تعالى لا نسبة لها إلى كبر المخلوق. وكذلك قوله: وهو أهون عليه . يريد على ما جرت به عادتكم، أن إعادة ما تقدم اختراعه أسهل من اختراعه ابتداءً. وقوله: هو أعلم بكم ، أي: منكم، حيث تتوهمون أن لكم علماً ولله تعالى علماً، وعلى حد ما تقولون: هذا أعلم من هذا. وهي طريقة العرب في كلامها، وبها نزل القرآن. خوطبوا بمقتضى كلامهم، وبما يعتادون فيما بينهم. وقد بين هذا سيبويه في كتابه حيث احتاج إليه. ألا ترى أنه حين تكلم على لعل في قوله تعالى: {لعله يتذكر ويخشى} صرف مقتضاها من الطمع إلى المخلوقين، فقال: والعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا على طمعكما ورجائكما ومبلغكا من العلم. قال: وليس لهما إلا ذاك ما لم يعلما. وهذا من سيبويه غاية التحقيق. وكثيراً ما يذكر أمثال هذا في كتابه. وأما بيت الفرزدق، فغير خارج عن تقدير من، فقد روي عن رؤبة بن العجاج أن رجلاً قال له: يا أبا الجحاف، أخبرني عن قول الفرزدق: أطول، من كل شيء؟ فقال له: رويداً، إن العرب تجتزىء بهذا. قال: وقال المؤذن: الله أكبر، فقال رؤبة: أما تسمع إلى قوله: الله أكبر، اجتزأ بها من أن يقول من كل شيء. هذا ما قال، وهو ظاهرٌ في صحة التقدير، وأنه مراد العرب. ثم إن الذي يدل على أن المراد معنى من، أن أفعل في هذه المواضع ونحوها لا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث، وما ذاك إلا لمانع تقدير من، كقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذٍ خيرٌ مستقراً} وقوله: نحن أعلم بما يستمعون . ونحو ذلك. والذي جاء من ذلك على الجمع شاذ، نحو ما أنشده الفارسي من قول الشاعر: إذا غاب عنكم أسود العين ***.........البيت أنشده المؤلف في الشرح على أنه جمع ألأم مجرداً عن تقدير من. وحمله الفارسي على أنه جمع لئيم، كقطيع وأقاطيع، وحديث وأحاديث، وحذف الزيادة. انتهى كلام الشاطبي. ولم يذكر البيت الذي أنشده الشارح المحقق. والتفضيل فيه غير مراد، فإن أصغر حالٌ من الضمير في ألأم، والمعنى نسبتهم إلى أشد اللؤم في حال صغرهم، وفي حال كبرهم، والتفضيل لا وجه له إلا بتكلف، وهو أن يكون التقدير: أصغر من غيره وأكبر منه. وهذا معنى سخيف. ويجوز أن يكون أصغر صفة لألأم للتعميم، فيرجع إلى معنى الحالية. ولا وجه لجعله صفة لقوم. فتأمل. وألأم منصوب على الذم، ويجوز أن يكون صفةً لقوله: نفرا، ويجوز أيضاً رفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: أنتم ألأم قومٍ، والقطع للذم أيضاً. واللؤم بالهمز: ضد الكرم، يقال: لؤم على وزن كرم، فهو لئيم، وهو الشحيح، والدنيء النفس، والمهين. وقوله: قبحتم هو بالبناء للمفعول وتشديد الباء. يقال: قبحه الله يقبحه بفتح الباءين المخفقتين. أي: نحاه عن الخير. وفي التنزيل: هم من المقبوحين ، أي: المبعدين عن الفوز. وقبحه الله بتشديد الباء للمبالغة. والجملة دعائية. ويقرأ بضم التاء والميم للوزن. ونفراً: تمييز محول عن الفاعل، والتقدير: قبح نفركم يا آل زيد. والنفر بفتحتين: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة. ولا يقال: نفر فيما زاد على العشرة. قاله صاحب المصباح. وفي ذكر النفر ذم أيضاً. والبيت لم أقف له على خبر. والله أعلم. وأنشده بعده: الطويل ملوكٌ عظامٌ من ملوكٍ أعاظم على أن أعاظم بمعنى عظام، وهو جمع أعظم بمعنى عظيم، غير مراد به التفضيل. ولو كان مراداً للزم الإفراد والتذكير. ويأتي فيه ما نقله الشاطبي عن الفارسي من أنه جمع عظيم مع حذف الزيادة. والمصراع من أبياتٍ لأعرابيٍّ. والرواية كذا: توسمته لما رأيت مهابةً *** عليه وقلت المرء من آل هاشم وإلا فمن آل المرار فإنهم *** ملوكٌ عظامٌ من كرام أعاظم فقمت إلى عنزٍ بقية أعنزٍ *** لأذبحها فعل امرىءٍ غير نادم فعوضني عنها غناي ولم تكن *** تساوي عنزي غير خمس دراهم فقلت لأهلي في الخلاء وصبيتي *** أحقاً أرى أم تلك أحلام نائم فقالوا جميعاً لا بل الحق هذه *** تخب بها الركبان وسط المواسم بخمس مئينٍ من دنانير عوضت *** من العنز ما جادت به كف حاتم روي أن عبيد الله بن العباس، رضي الله عنهما، خرج مرةً من المدينة يريد معاوية في الشام، فأصابته سماء، فنظر إلى نويرةٍ عن يمينه، فقال لغلامه: مل بنا إليها. فلما أتياها إذا شيخ ذو هيئة رثة، فقال له: أنخ انزل حييت! ودخل إلى منزله، فقال لامرأته: هيئي شاتك أقضي بها ذمام هذا الرجل، فقد توسمت فيه الخير، فإن يكن من مضر فهو من بني عبد المطلب، وإن يكن من اليمن فهو من بني آكل المرار. فقالت له: قد عرفت حال صبيتي، وأن معيشهم منها، وأخاف الموت عليهم إن فقدوها. فقال: موتهم أحب إلي من اللؤم. ثم قبض على الشاة فأخذ الشفرة وأنشد: الرجز قريبتي لا توقظي بنيه *** إن يوقظوا ينسحبوا عليه وينزعوا الشفرة من يديه *** أبغض هذا أن يرى لديه ثم ذبحها، وكشط جلدها، وقطعها أرباعاً، وقذفها في القدر، حتى إذا استوت اثرد في جفنةٍ، فعشاهم، ثم غداهم، فأراد عبيد الله الرحيل: فقال لغلامه: ارم للشيخ ما معك من نفقة. فقال: ذبح لك الشاة فكافأته بمثل عشرة أمثالها، وهو لا يعرفك؟ فقال: ويحك، إن هذا لم يكن يملك من الدنيا غير هذه الشاة، فجاد لنا بها، وإن كان لا يعرفنا، فأنا أعرف نفسي، ارم بها إليه. فرماها إليه فكانت خمسمائة دينار. فارتحل عبيد الله، فأتى معاوية فقضى حاجته، ثم أقبل راجعاً إلى المدينة، حتى إذا قرب من ذلك الشيخ، قال لغلامه: مل بنا إليه ننظره في أي حالة هو؟ فانتهيا إليه فإذا برجلٍ سري عنده دخانٌ عالٍ، ورماد كثير، وإبل وغنم ففرح بذلك، وقال له الشيخ: انزل بالرحب والسعة. وقال: أتعرفني؟ فقال: لا والله فمن أنت؟ فقال: أنا نزيلك ليلة كذا وكذا. فقام إليه فقبل رأسه ويديه ورجليه، وقال: قد قلت أبياتاً أتسمعها مني؟ فقال: هات. فأنشد هذه الأبيات، فضحك عبيد الله، وقال: أعطيتنا أكثر مما أخذت منا، يا غلام أعطه مثلها! فبلغت فعلته معاوية، فقال: لله در عبيد الله، من أي بيضةٍ خرج، وفي أي عش درج، وهي لعمري من فعلاته! وقوله: توسمته بمعنى تفرسته، من التوسم، يقال: توسمت فيه الخير، أي: طلبت سمته. وقوله: وإلا فمن آل المرار، أي: إن لم يكن من آل هاشم، فهو من آل المرار، على حذف مضاف، أي: آل آكل المرار، وهم ملوك اليمن. قال صاحب القاموس: والمرار بالضم: شجرٌ من أفضل العشب وأضخمه، إذا أكلته الإبل، قلصت مشافرها، فبدت أسنانها، ولذلك قيل لجد امرىء القيس: آكل المرار، لكشرٍ كان به. وقال الشريف الجواني: إن في آكل المرار خلافاً، هل هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع؟ أم هو حجر بن عمرو بن معاوية؟ وإن الحارث إنما سمي آكل المرار لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم، وكان الحارث غائباً، فغنم وسبى، وكان فيمن سبى أم أناسٍ بنت عوف بن محلم الشيباني امرأة الحارث، فقالت لعمرو بن الهبولة في مسيره: لكأني برجلٍ أدلم أسود، كأن مشافره مشافر بعيرٍ آكل المرار، قد أخذ برقبتك! تعني الحارث. فسمي آكل المرار. والمرار، كغراب: شجر مرٌّ إذا أكلت منها الإبل تقلصت مشافرها. ثم تبعه الحارث في بكر بن وائل فلحقه فقتله، واستنفذ امرأته، وما كان أصاب. وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: إن آكل المرار الحارث جد امرىء القيس الشاعر ابن حجر. وقوله: ملوكٌ عظامٌ إلخ، بتنوين ملوك، وعظام: وصفه، وكذلك ما بعده. وقوله: فعوضني إلخ، فاعله ضمير المرء من آل هاشم، المراد به عبيد الله ابن عباس. وغناي المفعول الثاني لعوض. والغنى: ضد الفقر، وضمير عنها للعنز. وقوله: تساوي بضم الياء للضرورة، أورده ابن عصفور في كتاب الضرائر وقال: أجرى حرف العلة مجرى الحرف الصحيح فأظهر الضمة عليه. وكذا أورده المرادي في شرح الألفية. وقوله: فقلت لأهلي إلخ، الخلاء بالفتح والمد: الفضاء. وصبية: جمع صبي، أي: قلت لزوجتي وأولادي. وقوله: أحقاً أرى إلخ، يقول: من شدة سروري بالدنانير دهشت فقلت لهم مستفهماً: أما أراه حقاً، أم تلك الدنانير أضغاث أحلام.؟ وقوله: تخب بها، أي: بذكرها، أي: بذكر الدنانير. وتخب، تسرع من الخبب، وهو ضربٌ من العدو، وفعله من باب نصر، وركبان جمع راكب. والمواسم: جمع موسم الحج. وقوله: بخمس مئين إلخ، هو بدلٌ من قولها بها. ومئين بالكسر والتنوين لغة، وضرورة جمع مائة. وعوضت: جعلت عوضاً من العنز. وقوله: ما جادت إلخ. ما: نافية، أي: لم تجد كف حاتم بهذا الجود. ويحتمل أن تكون ما موصولة خبر مبتدأ محذوف، أي: هي ما جادت به كف حاتم. المراد به عبيد الله بن العباس بالتصغير، وهو أخو عبد الله بن العباس رضي الله عنهم، حبر هذه الأمة. والأول مشهورٌ بالجود معدودٌ من الأجواد، والثاني مشهور بالعلم، وإن كانا في العلم والجود مشتركين. وقد أورد ابن عبد ربه في العقد الفريد بعض ما يتعلق بجود عبيد الله. منها: أنه أول من فطر جيرانه في رمضان، وأول من وضع الموائد على الطرق، وأول من حيا على طعامه، وأول من أنهبه. ومن جوده: أنه أتاه وهو بفناء داره، فقام بين يديه، فقال: يا ابن عباس، إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها. فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه، ثم قال له: ما يدك عندنا؟ قال: رأيتك واقفاً بباب زمزم وغلامك يمتح لك من مائها، والشمس قد صهرتك، فظلتك بطرف كسائي حتى شربت. قال: إني لأذكر ذلك، وإنه يتردد بين خاطري وفكري. ثم قال لقيمه: ما عندك؟ قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم. قال: ادفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده عندنا. قال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولدٌ غيرك لكان فيه ما كفاه، فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم شفع بأبيك وبك. ومن جوده أيضاً: أن معاوية حبس عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت حاله عليه، فقيل: لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله، فإنه قدم بنحو ألف ألف درهم. فقال الحسين: وأين تقع ألف ألفٍ من عبيد الله، فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر. ثم وجه إليه مع رسوله بكتابٍ ذكر فيه حبس معاوية عند صلاته، وضيق حاله، وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم. فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرق الناس قلباً انهملت عيناه، ثم قال: ويلك يا معاوية ما اجترحت يداك من الإثم، حين أصبحت لين المهاد، رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال، وكثرة العيال! ثم قال لقهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب، وثوبٍ ودابة، وأخبره أني شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك، وإلا فارجع، واحمل إليه الشطر الآخر. فقال له القيم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا ذلك دللتك على أمرٍ يقيم حالك. فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال: إنا لله، حملت والله على ابن عمي، وما حسبته يتسع لنا بهذا كله. فأخذ الشطر من ماله. وهو أول من فعل ذلك في الإسلام. ومن جوده: أن معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة، ومسكاً، وآنيةً من ذهبٍ وفضة، ووجهها مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب، وهو ينظر إليها، فقال: هل في نفسك منها شيءٌ؟ فقال: نعم، والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام! فضحك عبيد الله، وقال: فشأنك بها فهي لك. قال: جعلت فداك، أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي. قال: فاختمها بخاتمك، وارفعها إلى الخازن، فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً. فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم، ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه، يعني معاوية، فظن عبيد الله أنها مكيدة منه. قال: دع عنك هذا الكلام، فإنا قومٌ نفي بما وعدنا، ولا ننقض ما أكدنا. ومن جوده أيضاً: أنه أتاه سائلٌ، وهو لا يعرفه، فقال له: تصدق فإني نبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه. فقال له: وأين أنا من عبيد الله؟ قال: أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال؟ قال: فيهما. قال: أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت، وإذا فعلت كنت حسيباً. فأعطاه ألفي درهم، واعتذر إليه من ضيق الحال، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن عباس فأنت خيرٌ منه، وإن كنته، فأنت اليوم خيرٌ منك أمس! فأعطاه ألفاً أخرى، فقال السائل: هذه هزة كريم حسيبٍ، والله لقد نقرت حبة قلبي، فأفرغتها في قلبك، فما أخطأت إلا باعتراض الشد من جوانحي. ومن جوده أيضاً: أنه جاءه رجلٌ من الأنصار، فقال: يا ابن عم رسول الله، ولد لي في هذه الليلة مولودٌ وإني سميته باسمك تبركاً مني به، وإن أمه ماتت. فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة. ثم دعا بوكيله، فقال: انطلق الساعة، فاشتر للمولود جاريةً تحضنه، وادفع إليه مائتي دينارٍ للنفقة على تربيته. ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام، فإنك جئتنا، وفي العيش يبس، وفي المال قلة! قال الأنصاري: لو سبقت حاتماً بيومٍ واحد، ما ذكرته العرب أبداً ولكنه سبقك فصرت له تالياً، وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده وطل كرمك أكثر من وابله. هذا ما اخترناه من العقد، وفيه كفاية، وقصدنا بتسطيره الثواب وإن كان أطلنا به الكتاب. وأنشد بعده:
|